
” أخي، جاوز الظالمون المـدى” ذلك مطلع الأغنية الشهيرة التي لحنها وأنشدها الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب عن قصيدة كتبها الشاعر علي محمود طه سنة 1948 ردا على اغتصاب فلسطين. وقد استحضرتني هذه الصرخة الغاضبة بعد الاطلاع على قرار برلمان الاتحاد الأوروبي يوم 21 أكتوبر الماضي حول الوضع في تونس لما انطوى عليه من تدخل سافر في الشؤون الداخلية للدولة التونسية بشكل لم يسبق له مثيل ولافتضاح وقوف بعض الأطراف السياسية التونسية وراءه وانخراطها في أجندا معادية لمصلحة البلاد. فقد شمل القرار سواء في الجزء المتعلق بالتشخيص أو بالجزء المتعلق بالتوصيات أو بالأحرى بالأوامر كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ففي المجال السياسي جاوز الاتحاد الأوروبي المدى بالدعوة إلى إعادة العمل بدستور دست فيه أطراف أجنبية منها الاتحاد الأوروبي نفسه سموما ساهمت في تفكيك هياكل الدولة وبث الفوضى في البلاد. وألح على تطوير الحكم المحلي بما يؤكد سعيه إلى الاندساس في المجتمع وتخريبه معتمدا على ما يسمح به الدستور من إبرام اتفاقيات بين الهياكل المحلية التونسية ومثيلاتها الأجنبية دون المرور بالسلطة المركزية. ووصل به النفاق إلى التعبير عن استنكار غلق الشرطة التونسية مكاتب قناة الجزيرة يوم 26 جويلية المختصة في بث الفتنة والناطقة باسم تنظيم الإخوان مدعيا الدفاع على حرية التعبير في حين يتغاضى على عدم تمتع هذه القناة بالحد الأدنى من الحرية لتناول نفس المواضيع في قطر.
أما في المجال الاقتصاديفتمثل تجاوز المدى في تعبير الاتحاد الأوروبي على انشغاله لتردي الوضع الاقتصادي والحال أنه كان السبب فيه منذ إمضاء اتفاق الشراكة سنة 1995 الذي دمر ما لا يقل عن 50 % من النسيج الصناعي وتسبب في خسائر مالية كبيرة للاقتصاد التونسي بعد إلغاء الرسوم الجمركية. وقد تعمد قرار الاتحاد الأوروبي غض الطرف عن دور حركة النهضة ومن حكم معها خلال العشرية الأخيرة في تخريب الاقتصاد لصالح دول أجنبية مثل تركيا وإغراق البلاد في تداين مفرط مما ساهم في مزيد تقويض الصناعة الوطنية واستهداف الأمن الغذائي.
وفي المجال الاجتماعي جاوز الاتحاد الأوروبي المدى بالتعبير عن انشغاله لارتفاع نسب البطالة في حين أن أهم أسبابها تعود إلى ما تسبب فيه اتفاق الشراكة من غلق للمؤسسات الوطنية مما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة من 14 % سنة 2004 إلى 17.4 سنة 2020. كما تظاهر بالتعاطف مع مأساة التونسيين ” الذين يخاطرون بحياتهم بعبور البحر الأبيض المتوسط” وهي طريقة غير مباشرة لتحميل تونس مسؤولية ظاهرة الهجرة غير النظامية وللضغط عليها للقيام بدور الشرطي في المنطقة. وتجرأ على التنديد بإجراءات منع السفر المؤقت لبعض الأشخاص محل تتبعات من القضاء في حين أنه يمنع على التونسيين دخول الفضاء الأوروبي في الظروف العادية باستعمال مختلف أشكال التضييق والتعجيز وحتى الإهانة. وأخيرا فقد تجاوز الاتحاد الأوروبي مدى المدى بدعوته إلى مراجعة القوانين المتعلقة بحضانة الأطفال والحقوق الممنوحة لرب الاسرة وإجازة الأبوة وقوانين الإرث في حين أنها مسائل تخص التونسيين دون غيرهم كما وصلت به الصفاقة إلى الدفاع على حقوق المثليين والشواذ مستفزا بذلك مشاعر شعبنا ومنتهكا قيمنا وثقافتنا.
إن تنصيب الاتحاد الأوروبي نفسه وصيا على بلادنا وتجاوزه كل الحدود يستوجب التصدي بمثل ما ورد في النصف الثاني من بيت الشعر المذكور أعلاه ” فحق الجهاد وحق الفداء ” وذلك برفض الدولة التونسية إمضاء الاتفاق المتعلق بالفلاحة والخدمات مع الاتحاد الأوروبي وإلغاء اتفاق الشراكة الأول والبحث عن وجهات أخرى في العالم للتعاون الاقتصادي بما يضمن احترام سيادتنا الوطنية التي سالت من أجلها دماء آلاف الشهداء.
صدر بجريدة الشروق بتاريخ 29 أكتوبر 2021 ضمن الركن الأسبوعي ” نافذة على الوطن”
بقلم د. بدر السماوي