
لقيت العريضة المساندة للفنانيِن نور الدين وناجية الورغي موجة تعاطف واسعة بعد أن أصبح هذان الصرحان المسرحيان مهددين بالطرد من منزلهما نتيجة التعطل عن العمل بسبب الكوفيد 19. وتضاف مأساة بطلي مسرحية ” محمد الدرة ” اللذين أفنيا زهور العمر في ترسيخ المسرح الملتزم بقضايا الانسان والأرض إلى قائمة الفنانين والمثقفين والمبدعين الذين زاد الوباء في تعرية وضعيتهم الهشة وخاصة في مجال التغطية الاجتماعية. فقد سبق أن واجهت الممثلة الراحلة منية الورتاني أشهرا عصيبة في صراعها مع المرض ومنعت الفقيدة دلندة عبدو من مغادرة المستشفى العسكري بتونس إلا بعد دفع تكاليف العلاج.
ولا يعني ذلك غياب تشريع في مجال التغطية الاجتماعية لهذه الفئة. فقد تم إحداث نظام ضمان اجتماعي للفنّانين والمبدعين والمثقّفين بمقتضى القانون عدد 104 لسنة 2002 المؤرّخ في 30 ديسمبر 2002 يتصرف فيه الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ويوفر بعض المنافع الصحية والاجتماعية منها الحصول على التقاعد في سن 65. وعلى من يرغب في الانخراط ممارسة نشاط فنّي أو ثقافي بصفة قارّة تتولى التثبت فيه لجنة استشارية محدثة لدى وزارة الشؤون الثقافية وبإمكانه أن يختار شريحة دخل تقديري من بين شرائح الدخّل العشرة.
غير أن ظروف الفنانين والمثقفين والمبدعين لم تسمح لأغلبهم بتحمل مبالغ الاشتراكات في الضمان الاجتماعي. لذلك لم يشهد هذا النظام إقبالا كبيرا حيث لم يتجاوز عدد المنخرطين 309 في نهاية سنة 2019 ينتمي 82 في المائة منهم إلى الشريحة الأولى أي إلى أضعف شريحة والتي يعادل دخلها مرتين الأجر الأدنى المهني المضمون. ولم يبلغ عدد المنتفعين بجرايات بعنوان هذا النظام في نهاية سنة 2019 سوى 186 من بينهم 95 فقط منتفعون بجراية تقاعد والبقية بجرايات عجز وترمل ويتم. وإلى جانب ضعف نسبة التغطية الاجتماعية التي تعكسها هذه الأرقام فقد عجز العديد من المنخرطين على احترام آجال دفع اشتراكاتهم خاصة بعد حلول الوباء وما تسبب فيه الحجر الصحي ومنع الجولان من شلل في العمل.
وقد اضطر الفنانون والمثقفون والمبدعون إلى تنظيم تحركات احتجاجية خلال سنتي 2020 و 2021 أمام قصر الحكومة بالقصبة واعتصام مفتوح في مدينة الثقافة للمطالبة بعودة الأنشطة الثقافية والتظاهرات الفنية وخلاص مستحقاتهم المتخلدة بذمة الوزارة. لكن الحكومات المتعاقبة وآخرها حكومة المشيشي قابلتهم بالقنابل المسيلة للدموع تارة وبالفتات والوعود تارة أخرى. فقد تم تمكينهم من إعادة جدولة الديون المتخلدة بذمتهم بعنوان انخراطهم في الضمان الاجتماعي في حين أنهم لم يعودوا إلى النشاط بصفة كاملة بسبب تواصل تطبيق الإجراءات المرتبطة بالوباء. كما تم وعدهم بالترفيع في الحد الأدنى لجراية الشيخوخة من 200 دينار شهريا إلى مستوى الأجر الأدنى المهني المضمون دون أن يتم الوفاء بالوعد. وبعد أن ضاقت بهم السبل ها هم يقررون مؤخرا إحداث ” صندوق المبدع التونسي” وهو بمثابة تعاونية ستتولى حسب المشرفين عليها ” التدخل الفوري والعاجل في حالة الوفاة والسجن والتأمين على الحياة واسترجاع المصاريف عند العلاج” . ولئن كانت المبادرة إيجابية في حد ذاتها فإنها لا يمكن أن تكون بديلا للنظام القانوني للضمان الاجتماعي الذي يجب تقييم أسباب العزوف عن الانخراط فيه ومراجعته عند الاقتضاء.
إن النهوض بمستوى التغطية الاجتماعية للفنانين والمثقفين والمبدعين يمر أولا عبر توحيد صفوفهم وتجاوز ظاهرة التشتت النقابي. ويمر ثانيا عبر قيام الدولة بإعادة الاعتبار لهم وتثمين دورهم في محاربة الجهل والتطرف والإرهاب والارتقاء بالوجدان الفردي والوطني وهو ما لم يكن من الوارد أن يقوم به القاسم المشترك بين من حكموا البلاد خلال العشرية الأخيرة وفلي مقدمتهم فرع الإخوان باعتباره عدوّا للفن مدمّرا للثقافة خانقا للإبداع على أمل أن تتولى الحكومة الجديدة تدارك ما فات.
صدر بجريدة الشروق بتاريخ غرة أكتوبر 2021 ضمن الركن الأسبوعي ” نافذة على الوطن”
بقلم د. بدر السماوي