التقاعد الوجوبي سلاح ذو حدين

أثارت إحالة عدد من القيادات الأمنية خلال الأسابيع الأخيرة على التقاعد الوجوبي النقاش من جديد حول هذا الموضوع على غرار ما حصل السنة الماضية عندما تعرضت إطارات من سلك الديوانة إلى نفس الإجراء.

وقد تراوحت المواقف بين من رفضه معتبرا إياه بمثابة عقوبة وأداة لتصفية حسابات سياسية وبين من رأى فيه شكلا من أشكال ممارسة الدولة لسلطتها بحكم مسؤوليتها السياسية. ولعله من المفيد النظر في أسباب اعتماد هذا النوع من التقاعد وتطوره وارتباطه بالظروف التاريخية للبلاد.

فقد وقع في بداية السبعينات تنقيح القانون الصادر سنة 1959 وهو أول قانون للتقاعد بعد الاستقلال ينظم جرايات التقاعد المدني والعسكري حيث أضيفت إمكانية ” الإحالة على المعاش وجوبا بالنسبة للموظفين او المستخدمين المدنيين إذا كانت مصلحة الخدمة تتطلب انقطاعهم عن العمل مع ترك قرار الإحالة على التقاعد بيد الوزير الأول“. وقد تزامنت هذه الإجراءات مع وضع حد لتجربة التعاضد في والحاجة إلى التخلي على خدمات بعض الإطارات العليا للدولة.

وفي شهر مارس سنة 1985 صدر القانون المتعلق بنظام الجرايات المدنية والعسكرية للتقاعد وللباقين على قيد الحياة في القطاع العمومي الذي قام بمراجعة جذرية لنظام الجرايات منها حذف هذا النوع من الاحالة على التقاعد إلى أن صدر قانون أخر في جوان 1988 نقح قانون مارس 1985 وأعاد العمل ب ” التقاعد الوجوبي” وسمح للإدارة من جديد إحالة العون على التقاعد الوجوبي بعد قضاء خمسة عشر عاما على الأقل من الخدمات الفعلية المدنية والعسكرية دون اعتبار لشرط السن مع تمكين المحالين على التقاعد الوجوبي من الجراية فوريا وتمتيعهم بمدة تنفيل إلى حين بلوغهم السن القانونية للتقاعد.

والواضح أن صدور هذا القانون بعد سبعة أشهر فقط من اعتلاء بن علي السلطة وهو ابن المؤسسة العسكرية كان بهدف إحكام سيطرته على الأجهزة الأمنية والعسكرية والتخلص عند الاقتضاء من كل ما قد يهدد حكمه. ولم يشهد القانون أي تعديل بل مجرد محاولة قامت بها كتلة ائتلاف الكرامة السنة الماضية بتقديم مشروع قانون لإلغاء التقاعد الوجوبي.

أما على مستوى التطبيق فقد شهدت العشرية الأخيرة تفعيلا مشبوها للقانون حيث قام وزير الداخلية سنة 2011 بإحالة عدد من الإطارات الأمنية السامية من ذوي الخبرة على التقاعد الوجوبي في إطار مخطط تفكيك هياكل الدولة التي كان من نتائجه انتشار الفوضى وترعرع الإرهاب.

كما قام وزير العدل في حكومة الترويكا بإحالة قضاة على التقاعد الوجوبي علما وأن ذلك يحصل لأول مرة حيث لم يسبق إحالة أي قاض خلال فترتي حكم بورقيبة وبن علي. ورغم كل الإجراءات المذكورة فإن الأرقام تشير إلى أنه تمت منذ سنة 1985 حتى اليوم إحالة ما يناهز 600 عونا على التقاعد الوجوبي تمثل القوات الحاملة للسلاح العدد الأكبر منها بنسبة 90 بالمائة، وقد كلفت هذه الاحالات على التقاعد المالية العمومية ما يناهز 42 مليون دينار إلى غاية سنة 2019. وهكذا فإن العدد لم يكن ضخما نسبيا ولم تكن الكلفة المالية ثقيلة مقارنة ببقية الاحالات على التقاعد.

إن معالجة المسألة لا تنحصر في الجوانب الحقوقية أو المالية بل في علاقة مع الظرف التاريخي إذ لا يمكن المقارنة بين فترة تكون فيها الدولة قائمة وبين فترة تتعرض فيها الدولة إلى التفكيك. ولئن كان من حق المحالين على التقاعد الوجوبي المطالبة بتوضيح أسباب إحالتهم والتظلم عند الاقتضاء وهو ما قام به بعضهم خلال السنوات الأخيرة فإن من واجب الدولة مراجعة القوانين بما يضمن التناسق بين القانون المنظم للتقاعد الوجوبي والقوانين الأساسية لبعض الاسلاك وإضفاء مزيد من الشفافية والتعليل على قرارات الإحالة على أن تبقى مصلحة البلاد وأمنها ووحدة الدولة وحصانتها في صدارة الأولويات.

بقلم د. بدر السماوي – الشروق : 04 ديسمبر 2021

التقاعد الوجوبي سلاح ذو حدين
أنشره
الموسومة على: