مثل قرار رئيس الجمهورية الصادر في نوفمبر الماضي بحذف وزارة الشؤون المحلية وإحالة مشمولاتها وإلحاق هياكلها المركزية والجهوية بوزارة الداخلية خطوة جريئة تسمح بتصحيح مسار العمل البلدي وتقضي على مظاهر التشرذم وتفتيت مؤسسات الدولة التي مهد لها الباب السابع من الدستور ثم جسدته مجلة الجماعات العمومية بتعلة دعم اللامركزية. لذلك سارعت حركة النهضة إلى إصدار بيان وصفت فيه قرار الرئيس بالخطير ونسج على منوالها رئيس الجامعة الوطنية للبلديات والمنتمي لنفس الحركة واصفا إياه بالكارثة.
والحقيقة أن الخطير فعلا كان الباب السابع من الدستور وأن الكارثة هي مجلة الجماعات المحلية التي تضمنت 400 فصلا بالتمام والكمال ونصّت على 38 أمر حكومي لم يصدر أغلبها. وفي الأثناء لم تحقق اللامركزية الأهداف الاقتصادية والاجتماعية الموعودة وبقي الوضع المحلي على حاله بل زاد تدهورا مما أبرز البون الشاسع بين الشعارات المرفوعة وبين الواقع المعاش. وقد تم تلغيم المجلة بهيكلة وصلاحيات تؤدي إلى التنافر بل التنازع بين السلطة المحلية والسلطة المركزية مثلما تحولت عدة مجالس بلدية إلى حلبة صراع بين أعضائها أفضى إلى حل بعضها وتنظيم انتخابات جزئية تراوحت كلفتها بين 30 ألف دينار و100 ألف دينار للبلدية الواحدة في وقت كانت نفس البلدية عاجزة على توفير الموارد الدنيا للقيام بمهامها.
ومما زاد في تأزم الوضع الإجراء المتعلق بالتفرغ الاجباري لرؤساء البلديات ولهث بعضهم وراء هذا الامتياز في حين اضطر النزهاء منهم إلى الاستقالة بعد أن منعتهم المجلة من القيام بمهامهم بصفة تطوعية. وسعى آخرون إلى تغيير صنف البلدية بما يسمح بالترفيع في الامتيازات مثل السيارات وحصص الوقود والخدمات الهاتفية والمسكن الوظيفي وغيرها. وافتقدت المجلة على مستوى مراقبة التصرف الإداري إلى آليات ناجعة لوضع حد للتجاوزات أو المخالفات عند حصولها من ذلك أن الوزير المكلف بالجماعات المحلية لا يمكنه عند ارتكاب رئيس البلدية أو مساعديه أخطاء جسيمة تنطوي على مخالفة للقانون وتحدث ضررا فادحا بمصلحة عامة إيقاف أحدهم إلا بعد استشارة مكتب المجلس الأعلى للجماعات المحلية الذي لم يُحدث بعدُ.
أمّا إذا تعلق الأمر برئيس البلدية فيكاد يكون مستحيلا سحب الثقة منه حيث اشترطت المجلة ألا يتم ذلك إلا بأغلبية ثلاثة أرباع الأعضاء في حين تم انتخابه بنصفهم. ولا يمكن تقديم لائحة سحب الثقة من رئيس المجلس أكثر من مرة خلال الدورة النيابية كما لا يمكن سحب الثقة منه خلال الأشهر الستة التي تلي انتخاب المجلس البلدي. وهكذا حكمت المجلة على البلديات التي ابتليت برؤساء من الحركة التي كانت من أبرز مهندسي المجلة الكارثية أو من مشتقاتها أن يبقوا جاثمين على صدرها دون إمكانية التخلص منهم قانونيا في تكريس واضح لمخطط التمكين. ومن آخر الأمثلة في هذا الصدد رئيس بلدية وُجهت له ” شبهة ارتكاب جرائم استغلال موظف عمومي أو شبهه لصفته لاستغلال فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره والإضرار بالإدارة ومخالفة التراتيب المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة وإلحاق الضرر بالإدارة طبقا للفصل 96 من المجلة الجزائية” وأصدر بشأنه القضاء قرارا بمنعه من السفر ورغم ذلك يواصل ممارسة مهامه.
إنه لا مفرّ اليوم من تجميد العمل بمجلة الجماعات المحلية وإعادة العمل مؤقتا بالقانون الأساسي للبلديات لسنة 1975 وإن تعذر ذلك مراجعة مجلة سنة 2018 وخاصة الأقسام المتعلقة برئيس البلدية ومساعديه وصلاحيات رئيس البلدية. ولا شك أن مثل هذه القرارات ستجد الترحيب والدعم من عموم البلديين الذين فتحوا مؤخرا أفقا جديدا في النضال والكرامة من أجل ما سموه تحرير المرفق العمومي من هذه الكارثة وفي الذود فعلا لا قولا على وحدة الدولة سائرين على درب زميلهم العامل البلدي والزعيم الوطني والنقابي الفقيد الحبيب عاشور.
بقلم د. بدر السماوي صدر بجريدة الشروق بتاريخ 17 جانفي 2022 ضمن الركن الأسبوعي ” نافذة على الوطن”