
قلم د. بدر السماوي – الشروق : 06 نوفمبر 2023

يدخل اليوم الشهر الثاني من التقويم الفلسطيني الجديد الذي سيضاف إلى التقويمين الهجري والميلادي والذي بشر بربيع عربي حقيقي اهتزت له أفئدة الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج فعاشت لحظات استثنائية من الانتشاء والفخر بعبور المجاهدين الأبطال فجر يوم 7 أكتوبر 2023 من غزة الى أرض فلسطين المحتلة سنة 1948، حين أعلن القائد العام لكتائب عز الدين القسام انطلاق مرحلة جديدة أذهلت العالم بل فاجأت القوى الوطنية العربية بما حققته خلال بضع ساعات من غنائم ضخمة تمثلت في 250 أسيرا من قادة وضباط وجنود صهاينة وفي كنز من المعلومات الاستخبارتية عن مؤسسات العدو ومخططاته.
ومن دلالات عظمة ” طوفان الأقصى” أنها أول مواجهة تتم في أراضي 1948 منذ اغتصابها في تلك السنة وتزامن انطلاقها مع الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر المجيدة التي شهدت عبور خط برليف وكونها أول معركة يبادر بها العرب منذ خمسين سنة. وبقدر ما أدخلته هذه الملحمة من شموخ وثبات في صفوف المقاومة وحاضنتها الجماهيرية في غزة وعموم فلسطين وفي كافة الأقطار العربية وإسراع محور المقاومة في لبنان وسوريا والعراق واليمن إلى إسنادها كانت الصورة عكسية في صفوف العدو الذي انتابه الذعر وأصابه الشلل وشارف على الانهيار التام لولا أن هرع له أسياده الأمريكان والغربيون لامتصاص الصدمة وترميم المعنويات حاملين في جعبتهم ما أسموه بـ ” عملية التحرير الثاني” ومُضمرين مؤامرة تهجير أهل غزة قسرا نحو سيناء تحت وطأة الأحزمة النارية ومُوفّرين آليات التقتيل المختلفة والأشدّ فتكا للعصابات الصهيونية الإرهابية التي أقدمت في حركة جنونية هستيرية على ارتكاب أنذل محرقة في التاريخ البشري وأجبنها ومُطلقة حِمم الموت من الجو والبحر على البيوت والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس وسيارات الإسعاف والصحفيين لإجبار الناس على الهروب والانفضاض عن المقاومة.
ورغم سقوط آلاف الشهداء وإصابة عشرات الآلاف من الجرحى رفع أهل غزة صوتهم عاليا وهم يحملون أشلاء أجساد ذويهم ويدفنون الأعزاء على قلوبهم مردّدين” تحيا المقاومة، نحن لن نرحل عن أرضنا، نعيش فوقها شامخين أو نُدفن في ثراها شهداء “. وعلى عكس جاهزية المقاومة انكشفت مظاهر فادحة من الوهن والضعف في مؤسسات العدو وفشل استخباراته بكافة أذرعها في مراقبة تسلح الفصائل وعجزه عن اكتشاف التطور التكنولوجي واستشراف هجوم محتمل ما سهّل مجريات المعركة عند انطلاقها واندفاع كتائب عز الدين القسام من البر والبحر والجو لتهاجم 23 نقطة عسكرية للعدو و12 مستوطنة وتطلق ألف صاروخ على أهدافه من شمال فلسطين إلى جنوبها متسببة في شلّ شبكة الاتصالات بين مختلف أجهزة الجيش الصهيوني.
وبقدر ما اتسمت به هذه المواجهة من دقة أمنية ونجاح في التمويه من قبل فصائل المقاومة لدرجة اعتقاد العدو أنّه تمكن من تحييد حركة حماس وجرّها إلى مربع التسويات في حين أنّها كانت تعمل على التركيم في صمت ، بقدر ذلك كله، كان إعلان طوفان الأقصى في جانب هام منه استباقيا وضروريا بهدف لجم العدوان الصهيوني المتصاعد على القدس وتحديدا على المسجد الأقصى ولوقف التنكيل اليومي بأهالي الضفة الغربية ولمواجهة سياسة قضم الأراضي وتوسيع المستوطنات وتشتيت الفلسطينيين في كانتونات مصطنعة تمنع أي وحدة جغرافية ولو كانت لتجسيد مهزلة الدولتين مثلما كان إعلان الطوفان مُلحّا لإجبار العدو على تبييض السجون من الخمسة آلاف أسير ورفع الحصار الظالم الجاثم على غزة. وقد اضطر العدو للمغامرة بشبه عملية برية في غزة مُدركا سلفا أنها مكلفة وخاسرة ومحاولا عبثا إحداث اختراق في أنفاق المقاومة الحصينة وإحراز نصر يعيد ثقة المستوطنين بجيشهم المهزوم ،لكن واقع الأرض أنتج ملاحم منقطعة النظير وخسائر جسيمة ومؤلمة للعدو في الأرواح إضافة إلى الشلل التام الذي أصاب اقتصاده.
وإذ لا ننكر بعد مضي شهر من انطلاق طوفان الأقصى ما تخلله من آلام وما خلفه من أضرار فإننا على قناعة أن التضحيات ستتوج بانتصار مؤزر يُبنى عليه لقادم المواجهات حتى النصر الكامل والنهائي بكنس هذا العدو وتحرير فلسطين، كل فلسطين على أن تتحمل كل القوى الوطنية العربية مسؤوليتها كاملة كل من موقعه. وقد صدق الشاعر اليمني عباس الديلمي حين كتب في صدر البيت الأول من قصيدته المتميزة بالتفاؤل والأمل ” صبَاحُ الخَيْرِ يَا وَطنَاً يَسِيرُ بِمَجْدِهِ العَالِي إلى الأَعلى”.