
عرف اليسار العربي على امتداد قرن من تاريخه ضمورا وضعفا في دعم النضال فلسطينيا. ويأتي الاهتمام بموضوع دور اليسار العربي في دعم النضال فلسطينيا – تحديات الراهن وأفق المستقبل-في إطار الملف الذي أطلقته مجلة ” الهدف” مشكورة بمناسبة الذكرى الرابعة والخمسين لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وهي محاولة لإلقاء الضوء على هذا الموضوع الهام والمتشعب عبر تناول بعض مظاهر الضعف في دعم النضال فلسطينيا عند فصائل اليسار وأسبابه وآفاق تجاوزه من خلال المثال التونسي.
وتجدر الإشارة بداية إلى أن مصطلح “اليسار” الذي يُطلـَـق في الاستعمال المتعارف عليه على كل طرف سياسي يتكلّم باسم الماركسية والاشتراكية والشيوعية لا يجب أن يطمس الاختلاف الجوهري والتباينات التي رسمها الصراع الفكري والسياسي على امتداد قرن من الزمن حول قضايا بارزة ومنها قضية فلسطين داخل ما يسمى باليسار العربي وخارجه.
ويتضح الضعف عند تناول موضوع ” اليسار وقضية فلسطين” في قلة اهتمام الجرائد الناطقة باسم مختلف أطراف اليسار التونسي بقضية فلسطين وتجاهلها لأحداث بارزة كاندلاع الكفاح المسلح الفلسطيني في 1/1/1965 وغياب القضية عن مقررات مؤتمراته وتجنبه لمواضيع شكلت الشغل الشاغل للساحة الوطنية التونسية كرفض دعوة شارون لقمة المعلوماتية التي انعقدت في تونس في 2005.
وإن أتى على ذكر فلسطين في برامجه في بعض الأحيان فقد وضعها في بند “دعم حركات التحرر في العالم” بل إنه كثيرا ما تثار في أنشطته قضايا تحرر عالمية ونسيان قضية فلسطين أو تناسيها. وكان من نتائج هذا الضعف في دعم النضال فلسطينيا بما فيه من تنكر لمركزية قضية فلسطين ونكران لدور الصراع العربي الصهيوني في تثوير المنطقة العربية، إخلال أطراف اليسار بواجبها في تصدّر المواجهة مع العدو الصهيوني وفي أن تكون رافعة للحرب الوطنية بمشاركتها فيها لا أن تلعب دورا في إحباطها.
وتقف وراء هذا العجز المواقف المنحرفة في أبرز محطات الصراع العربي الصهيوني بدءا بالموقف من قرار تقسيم فلسطين الصادر عن المنتظم الأممي سنة 1947 إلى الموقف من الربيع العبري في 2011 وما بعده مرورا بحرب 1948 و1967 و1973 وموجات التطبيع المتعاقبة في العقود الأخيرة. ففي حين انخرطت الحركة الوطنية في تونس بكل مكوناتها والمنظمات الجماهيرية المختلفة وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل التي أصدرت مؤتمراتها قرارات “دعم كفاح عمال وشعب فلسطين في سبيل تحقيق أهدافهم القومية”، في تنظيم حملات التطوع للقتال على أرض فلسطين في 1948 و1967 و1973 على الجبهتين المصرية والسورية وفي التسعينات على جبهة جنوب لبنان وفي ممارسة كل أشكال الدعم الذي شاركت فيه المرأة كما الرجل من إضرابات كالإضراب العام يوم 10/5/1946 احتجاجا على تقرير اللجنة الانجلو أمريكية حول فلسطين (نيسان 1946) وإضراب عام أيام 3 و4 و5/12/1947 احتجاجا على قرار التقسيم وتشكيل اللجان وإلقاء المحاضرات وتنظيم التجمعات الشعبية والدعوة لجمع التبرعات والأسلحة والرجال للقيام بالواجب وتحذير اليهود من مغبة جمع الأموال والأسلحة للصهاينة. وفي هذا الوقت بالذات عبّر الحزب الشيوعي بتونس على لسان أمينه العام محمد جراد عن تأييده لقيام “دولة إسرائيل” تدعيما لموقف الاتحاد السوفياتي الذي اعترف بـ”دولة إسرائيل” وعن وقوفه مع حق “القومية اليهودية في فلسطين” في تقرير مصيرها ودعا لمقاطعة إضراب عام يوم 10/5/1946. وعند اندلاع حرب 1948 هاجم ما أسماه “الحرب المقدّسة” وندّد بدخول القوات العربية الحرب وأعلنت صحيفة الحزب l’avenir social (المستقبل الاجتماعي) أن “مصلحة الشعب الفلسطيني في وضع حد لهذه الحرب” و”العمل على استقلال في إطار التقسيم”.
ولم ينفرد الحزب الشيوعي بتونس بهذه المواقف المنحرفة بل شملت عددا من الأحزاب الشيوعية العربية وعاشت هذه الأحزاب صراعا حول الموقف من قرار التقسيم حُسم عموما وسريعا بعد تصفية المعارضين، الذين التحق بعضهم بالكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني لصالح الموقف الداعم للتقسيم والاعتراف بدولة الكيان بحجة وضع حد للـسياسة “الشوفينية” والالتحاق بحزب “أممي” يجمع بين “القوميتين العربية واليهودية”. وما لبث أن تمت مراجعة هذا الحسم بالنسبة لبعض الأحزاب تحت ضغط أحداث لاحقة إثر حرب 1967. وقد امتد هذا النموذج في العداء للمسألة الوطنية والتبعية الفكرية والسياسية لقوى أجنبية من طرف قوى عميلة للاستعمار لقضية الاستقلال والتحرر من الوجود الاستعماري على مستوى الأقطار حيث هوجم شعار الاستقلال باعتباره شعارا يرفعه “الإقطاعيون الخونة” وتمت إدانة أحداث سطيف في الجزائر في ماي 1945 بدعوى أنها “ثورة ضد الشعب الفرنسي وضد الديمقراطية”.
وتكررت مواقف العمالة هذه إثر عدوان جوان 1967 وبعد قمة اللاءات الثلاث بالخرطوم وبعد معركة الكرامة سنة 1968 في شكل هجوم شرس على القومية العربية حيث انتقدت عدة أحزاب شيوعية عربية “السياسة غير الواقعية” و”المزايدات الخالية من المسؤولية لبعض القوى القومية” تجاه القضية الفلسطينية ونعتت المقاومة بـ”الاتجاه المغامر والعاطفي” وعمدت مجموعة “آفاق” التابعة لـ”تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس” لإصدار كراس في فيفري- شباط 1968 بعنوان “المسألة الفلسطينية في علاقتها بتطور النضال الثوري في تونس” نظـّر فيها كاتبها إلى أن “إسرائيل تضطهد الأمة الفلسطينية وليس الأمة العربية” وأن “العدو الرئيسي للبروليتاريا والطبقات المضطهَدة في تونس” هو الدولة التونسية وليس “دولة إسرائيل”. وفي حين ينكر كاتب هذا الكراس وجود أمة عربية بحجة “تشكل مجموعات داخلها بلغات مختلفة.. بمسار شبيه بتشكل أستراليا وإفريقيا الجنوبية أو دول أمريكا اللاتينية” فإنه يقول بوجود “أمة يهودية في إسرائيل” وأن “إسرائيل ليست عدوّا رئيسيا للشعب التونسي” وبأن “الدعوة لمساندة المنظمات الفلسطينية لن ينتج عنه سوى إفراغ الجبهة الداخلية” في مواجهتها للنظام الحاكم وقد سبق للحزب الشيوعي المغربي أن طوّر نفس الموقف معتبرا أن “القضية الشاغلة” هي “المشكلة المغربية” وليست قضية فلسطين. وتعود هذه الظواهر المنحرفة عند أطراف ما يسمى باليسار والتي أضرت كثيرا بقضية الأمة العربية الأولى فلسطين لاندساس أطراف متصهينة معادية ولتبعية فكرية وسياسية لقوى أجنبية والاستقواء بها على الخصوم السياسيين. إن هذه الطروحات المقيتة رغم اندثار أصحابها في شكلهم القديم وجدت من يتبناها في شكل جديد من أحزاب وشخوص تعتبر نفسها “تقدمية” و”يسارية” و”عمالية” و”شيوعية”..
أما على مستوى تونس، فقد حُسم الصراع مع هذه الطروحات المنحرفة جوهريا منذ نصف قرن تقريبا ببروز الطرح الوطني الديمقراطي في بداية سنة 1970 الذي رسم التباين مع أطراف اليسار السائدة آنذاك ليس فقط على المستوى الفكري والسياسي بل أيضا على المستوى التنظيمي مما فسح المجال لبلورة خط جديد يُـبْـرز المسألة الوطنية ورئيسيتها في البلدان الخاضعة للسيطرة الإمبريالية مثل وطننا العربي ويحسم المسألة القومية العربية بالإقرار بوجود أمة عربية واحدة وأن قضية فلسطين هي قضيتها المركزية. وهكذا يفرض التسلح بالموقف الصائب من الحرب الوطنية الدائرة في المشرق ضد العدو الصهيوني على أي حزب مناضل في أي قطر عربي إعطاء البعد العربي لنضاله وتمهيد الطريق للمشاركة في جبهة المواجهة مع العدو الصهيوني اقتداء بالآباء والأجداد الذين بذلوا الأرواح وسيرا على دربهم في سبيل تحرير فلسطين، كل فلسطين، انطلاقا من قناعة أن ” مصير العرب من مصير فلسطين، إن تحررت تحرّروا، ولا حرية حقيقية للعرب وفلسطين مغتصبة” مما يفرض التباين مع فخ الانشغال عن قضية العرب الأولى فلسطين بحجة أن القضية الشاغلة يجب أن تكون القضية القطرية وأن الاهتمام بقضية فلسطين كقضية مركزية فيه “إفراغ للجبهة الداخلية” على مستوى القطر و”طمس الفوارق الطبقية” وباتهام سخيف بـ”الهروب من مواجهة الأنظمة الحاكمة”.
نعم يجب الاهتمام بالوضع القطري.. لكن على أية خلفية؟.. هل هي خلفية الانكفاء والانعزال والنأي بالنفس عن قضايا الأمة العربية الواحدة في التحرير والوحدة وفي مقدمتها قضية فلسطين أم العكس: العمل على التغيير في القطر لدعم قضايا الأمة. وهذا يعني أن الحدود المصطنعة التي رسمها الاستعمار وعمل على ترسيخها للانفراد بكل جزء على حدة ولدفع أبناء الشعب الواحد للتنافر والاحتراب لأجل جعل اليد الصهيونية هي العليا لا يجب أن تجد طريقها إلى وعينا وتفكيرنا بل نتفاعل مع الأحداث والقضايا القومية في إطار وطن كبير واحد كل جزء فيه مرتبط أشد الارتباط بما في بقية الأجزاء … قضاياه واحدة والرئيسية منها وهي قضية فلسطين قضية مركزية لكل الأمة العربية معْـنيّ بها الليبي والتونسي والجزائري والمصري والمغربي والسوداني واليمني والسوري والعراقي والخليجي.. كما هو معني بها الفلسطيني.. هذا ما نتعلمه من تجربة الزعيم جمال عبد الناصر الذي مسك السلطة في 1952 بعد حصار الفالوجة في فلسطين في 1948 فبنى مصر ودعّم الجيش المصري العتيد الذي حقّق انتصارات حرب الاستنزاف وحقق العبور وأوصل الكيان الصهيوني إلى حافة الانهيار. هكذا هي العلاقة الصحيحة بين القطري والقومي وهكذا يجب أن يفكر الوطنيون العرب وخاصة منهم الفصائل التي تعتبر نفسها طليعة النضال التحرري في هذه الأمة أينما كان موقعها في ربوع هذا الوطن، وهكذا يجب أن تفهم الأوضاع السائدة في أقطارها في ترابط مع الأوضاع العربية فتضع في برامجها الاستراتيجية هدف تحرير فلسطين وتعمل على تحقيقه بخططها العملية. فلا بد لهذه الفصائل أن تحل بصورة صائبة العلاقة بين القطري والقومي والعلاقة بين الاستراتيجيا والتكتيك بعيدا عن “الحلول المرحلية” و”برامج الحد الأدنى” المفصولة عن الأهداف الاستراتيجية.
إن دماء الشهداء التي لم تعترف يوما بالحدود تشهد أننا شعب واحد وأمة واحدة.. قضايانا واحدة ومصيرنا واحد. أما البعض من اليسار الذي كان على هامش قضية فلسطين فلا شيء يرجى منه إن لم يتجاوز بصورة جذرية الانحرافات التي عرفها على مر تاريخه حيال قضية العرب الأولى قضية فلسطين.
المنجي المقني – أمين عام حركة النضال الوطني – تونس – مجلة الهدف 21/12/2021