بعد ثلاثين سنة من اتفاق أوسلو:عندما تجري رياح المقاومة بما لا تشتهي سفن المساومة؟

بقلم د. بدر السماوي – جريدة الشروق بتاريخ 11 سبتمبر 2023

تمرّ في اليوم الثالث عشر من هذا الشهر ثلاثون سنة على إمضاء اتفاق أوسلو المشؤوم بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني برعاية أمريكية والذي نصّ على ” إنهاء عقود من المواجهة والنزاع والاعتراف المتبادل بالحقوق المشروعة والسياسية. فقد بُني الاتفاق على وهم إقامة دولة فلسطينية وإنهاء الصراع بفُتات يقبل به الفلسطيني ويُسلم بواقع جديد قائم على سلب 78% من أرضه، لكنّ الأطماع الصهيونية لم تكتف بذلك وانقلبت على الاتفاق وبات حتى خيار ما يسمى ب”حل الدولتين” في طيّ النسيان وابتلع الاستيطان الجزء الأكبر من الضفة الغربية إضافة لما تتعرض له القدس في كل يوم من تهويد مستمر. وتحولت السلطة الفلسطينية إلى أداة أمنية تلاحق المقاومين ولم يعد لدى العدو ما يحرص عليه أن يبقى ويستمر سوى التنسيق الأمني. وازداد صلف الصهاينة بعد أن أعلنت الإدارة الأمريكية على يدي ترامب عما سمي بصفقة القرن التي منحت لهم الحق كاملا بالسيادة على القدس وتطبيع العلاقات مع بعض الأنظمة العربية متجاوزة بذلك اتفاق أوسلو نفسه.
إلاّ أنّ الشعب الفلسطيني لم يتوقف قبل الاتفاق وبعده عن المقاومة ورفض الاستسلام فأجبر الصهاينة على الهروب من غزة سنة 2005 وخاض النضالات على مختلف الواجهات بما في ذلك السجون التي سطر فيها الأسرى أروع البطولات على غرار ملحمة نفق الحرية التي أحيينا منذ أيام ذكراها الثانية. وأصبحت رقعة المقاومة متسعة في كافة أرجاء فلسطين بما فيها الضفة الغربية والقدس وحتى الأراضي المحتلة سنة 1948. وشهدت السنوات الأخيرة سلسلة من الملاحم التاريخية فكانت معركة ” سيف القدس” سنة 2021 وملحمة “وحدة الساحات” سنة 2022 ومواجهة ” ثأر الأحرار” سنة 2023. وأدّت عمليات المقاومة إلى تصفية 34 صهيونيا خلال سنة 2023 متجاوزة ما قامت به السنة الماضية بالإجهاز على 29 صهيونيا.
لقد تمكنت المقاومة في فلسطين في السنوات القليلة الماضية بدعم من قوى المقاومة في المنطقة وخاصة في سورية ولبنان وإيران من دق مسمار آخر في نعش اتفاق أوسلو واستعادت عنفوانها بعد ما عرفته القضية المركزية من تهميش خلال عشرية الربيع العبري على أيدي أدوات الاستعمار والصهيونية من إرهابيين تكفيريين ودعاة مزيفين للديمقراطية ولحقوق الانسان. وأعطت المقاومة في فلسطين شحنة للشعب العربي في البلدان التي أبرمت أنظمتها اتفاقيات عار مع الكيان الغاصب مما جعل التطبيع لا يتجاوز فيها المستوى الرسمي بل إنّ أيّ محاولة جديدة في هذا المجال لن يكون مصيرها إلاّ الفشل وآخر مثال على ذلك الهبة الشعبية في نهاية الشهر الماضي في ليبيا الرافضة لتطبيع حكومة الدبيبة ومنقوشته.
وعلينا في تونس ونحن على بعد أيام من عودة مجلس نواب الشعب إلى عمله أن نجدد الطلب بسن قانون لتجريم التطبيع وهو أضعف الايمان أمام ما يسجله شعبنا في فلسطين من بطولات وما يقدمه من شهداء يوميا. ولئن شرعت لجنة الحقوق والحريات بمجلس نواب الشعب في نهاية شهر جويلية الماضي في دراسة مقترح قانون يتعلق بتجريم التطبيع قدمته إحدى الكتل البرلمانية فإنها مناسبة للتنبيه إلى ما تضمنه المقترح من مخاطر مثل التنصيص على ما سماه “حق العودة لمتساكني الأراضي المحتلة من المغرّر بهم” (يقصد اليهود التونسيين الذين تحولوا في فترات سابقة للاستقرار بالكيان الصهيوني) إذ بإمكان هؤلاء حسب المشروع تقديم طلب حق العودة إلى وطنهم بعد طلب التمتع بالجنسية التونسية يعلنون فيها الصفح وما يفيد طلبهم من سلطات الاحتلال إسقاط الجنسية الصهيونية عنه يُستثنى من ذلك من تورط في جرائم ضد الانسانية على معنى المواثيق الدولية.
إنّ فكرة “حق العودة” هذه تحمل في طياتها خطر التطبيع حيث تُشرّع لغزو الصهاينة لتونس بتعلة العودة لوطنهم الذي ناصبوا له العداء وانخرطوا في كيان اعتدى على تونس بصفة مباشرة أكثر من مرة ولم يتوقف يوما على قتل الفلسطينيين وانتزاع أراضيهم وافتكاك ديارهم وتدنيس قدسهم فيسمح لهم اليوم بالعودة كصهاينة وجواسيس فضلا على ما قد يؤدي إليه هذا المقترح من فتح الباب لما يُسمى بالتعويضات لليهود المغادرين واسترجاع ممتلكاتهم.
إن الأمل أن يستجيب قانون لتجريم التطبيع الذي انتظرناه طويلا للإرادة الشعبية وأن يكون مواكبا لموقف رئيس الجمهورية الذي أعلن أكثر من مرة موقفه الرافض للتطبيع وآخرها يوم 29 أوت 2023 بمناسبة تسليم أوراق اعتماد سفراء جدد بأن مصطلح التطبيع غير موجود لديه والأمر الطبيعي أن تعود فلسطين إلى الشعب الفلسطيني. ومن شأن هذا القانون أن يساهم في كبح جماح البعض من حين لآخر في القيام بمحاولات للتطبيع في مجالات مختلفة اقتصادية وأكاديمية وثقافية وغيرها أو إدانتهم عند الاقتضاء.

بعد ثلاثين سنة من اتفاق أوسلو:عندما تجري رياح المقاومة بما لا تشتهي سفن المساومة؟
أنشره