
بقلم د. بدر السماوي – الشروق: غرة ديسمبر 2023
يحلّ علينا هذه السنة 29 نوفمبر الذي يؤرخ لقرار الأمم المتحدة المشؤوم سنة 1947 القاضي بتقسيم فلسطين في ظرف اتخذت فيه المقاومة الفلسطينية فجر السابع من أكتوبر 2023 قرارا جريئا يقضي بإلغاء قرار التقسيم والشروع في التحرير عبر إطلاق ملحمة طوفان الأقصى. وها هي تبدأ بتذوق طعم التحدي ولذة الانتصار بتحرير دفعة أولى من الأسرى.
وقد لقيت ملحمة طوفان الأقصى منذ انطلاقها تعاطفا شعبيا واسعا من مختلف أرجاء العالم ومساندة من أنظمة بعض الدول الشريفة التي قطع بعضها العلاقات مع الكيان الصهيوني واستدعى البعض الآخر سفيره من تل أبيب. كما انتفضت الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج مطالبة بفتح الحدود لتحرير فلسطين. وأعلنت بعض الأنظمة العربية وفصائل وطنية دعمها للمقاومة وصل ببعضها إلى خوض مواجهات مسلحة مع الكيان الغاصب.
وفي تونس لم يكن التضامن مع فلسطين أقل مما عرفته بقية الأقطار العربية أو دون ما شهدته بلادنا منذ سنة 1947 بل قد يكون أفضل. ويعود السبب إلى أنّ حدث 25 جويلية 2021 لم يقتصر على إنقاذ تونس على المستوى الداخلي بل كان منعرجا كبيرا على المستوى الخارجي بإعادة البلاد إلى موقعها الوطني على مستوى القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. فكانت الصرخة المدوية التي أطلقها رئيس الجمهورية قيس سعيد قبيل الانتخابات الرئاسية وأعادها مرارا بعدها ” التطبيع خيانة عظمى”. وهكذا تكرس للمرة الأولى في تاريخ تونس التطابق التام بين الموقفين الرسمي والشعبي. فمن الجانب الرسمي صدع رئيس الجمهورية بصوت عال موقفا منتصرا لحق الشعب الفلسطيني:” نؤكد عهدنا على مواصلة مسيرة النضال من أجل تحرير كل الوطن المحتلّ بالجماهير العربية معبّأة ومنظمة ومسلّحة وبالحرب الثورية طويلة الأمد حتى تحرير فلسطين، كل فلسطين” . ولم يُفوت الرئيس فرصة إلاّ وأثار قضية فلسطين مُبشرا بالنصر والتحرير حيث قال أثناء إحياء عيد الشجرة في رجيم معتوق ” أننا نزرع شجرة الحق التي ستكون باسقة في فلسطين وفي تونس وستهبّ على عملاء الصهيونية ريح صرصر عاتية”. وأوصى بضرورة حسن تأمين المظاهرات المساندة لفلسطين في كافة مناطق الجمهورية. وبادرت وزارة الشؤون الدينية بتكريم الشهيد ميلود بن ناجح نومة بطل عملية الطائرة الشراعية سنة 1987 بتسمية قاعة باسمه في مقر الوزارة.
وفي المستوى الدبلوماسي وفي إطار التمسك بالدعم الحقيقي للمقاومة تحفظت تونس على قرار جامعة الدول العربية رافضة أن تكون فلسطين ملفًا أو قضية فيها مدّع ومدّعى عليه بل حقّ لا يمكن أن يسقط بالتقادم أو يسقطه الاحتلال الصهيوني بالقتل والتشريد. كما امتنعت تونس عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة معتبرة أنه لا يمكن للحق الفلسطيني أن يكون بضاعة في في سوق صار فيه المزاد مفضوحا لوضع خريطة جديدة لمنطقة تُرسم فيها الحدود من جديد بالفتن في الداخل وبشتى أنواع الأسلحة من الخارج. وتوجه رئيس الجمهورية إلى سفراء تونس بالخارج أكثر من مرة عند تعيينهم داعيا إياهم إلى التمسك بالحق الفلسطيني.
وأشرف الهلال الأحمر التونسي على جمع التبرعات المالية والعينية وأرسل طائرتين محملتين بالمساعدات وأطلق أطباء مبادرة ” أطباء متطوعون إلى غزة ” ووضعوا منصة للطب عن بعد على ذمة الأشقاء في فلسطين لتقديم النصائح اللازمة مع التعبير على استعدادهم للتوجه إلى غزة. وخصص الهلال الأحمر التونسي منحة شهرية للطلبة الفلسطينيين الدارسين بتونس الذين تعذر عليهم الاتصال ببلدهم وخاصة مع غزة مع توفير متابعة نفسية لهم بعد أن فقد بعضهم أفرادا من عائلاتهم.
أما على المستوى الشعبي فانطلقت منذ مساء السابع من أكتوبر المسيرات والتظاهرات والوقفات الاحتجاجية في كافة أنحاء البلاد وتسارعت مظاهر التضامن وتقديم مختلف أشكال الدعم بالمال والأدوية والدم والملابس والأغطية. ولوحظت مشاركة شبابية لافتة عرفت أوجها يوم 11 أكتوبر 2023 عندما خرج التلاميذ والطلبة بكل تلقائية احتجاجا على مجزرة مستشفى المعمداني في غزة. وانخرطت المؤسسات التربوية بداية من رياض الأطفال حتى الجامعات مرورا بالمعهد والمدارس الثانوية في حملات توعية وتعريف بفلسطين وبتاريخها وتراثها وببطولاتها. ووقف الفنانون إلى جانب فلسطين ومن بينهم الفنان لطفي بوشناق بإعلانه التخلي عن لقبه سفيرا للنوايا الحسنة لدى الأمم المتحدة والنجمة هند صبري بتقديم استقالتها من برنامج الغذاء العالمي. وكان نجوم الرياضة الذين رفعوا علم تونس أكثر من مرة في المحافل الدولية في الموعد مع فلسطين على غرار السباح أيوب الحفناوي ولاعبة التنس أنس جابر. وعدّلت وسائل الإعلام التونسية برامجها على وقع أحداث غزة.
وختانا يحق لنا في تونس الافتخار بثباتنا على التضامن مع فلسطين في كل المحن التي مرت بها منذ قرار التقسيم حتى أضحت فلسطين الموضوع الوحيد الذي يحظى بإجماع كل التونسيين. فعسى أن تستخلص الأطراف السياسية والمنظمات الوطنية الدروس من تجربة التضامن مع طوفان الأقصى وتتجاوز الخلافات الداخلية سيرا على درب المقاومة الفلسطينية واحتراما لأرواح شهدائها وشهداء تونس من أجل فلسطين.