لئن كان من المشروع التطلع في مثل هذه الفترة من كل سنة إلى صدور قانون المالية والإعلان عن ميزانية الدولة للسنة الموالية وما يتضمنه من إجراءات جديدة فإنه من الضروري التنبيه إلى الخلط بين دوره وبين دور المخطط التنموي. فكلاهما لا يشمل سوى سنة واحدة وهما مخصصان لتسيير جهاز الدولة من جانب الموارد والنفقات ومن المفروض أن يكون قانون المالية أداة تنفيذ تدريجي لبرامج المخطط التنموي. وقد يعود سبب هذا الخلط إلى ما عرفته العشرية الأخيرة من غياب للمخططات التنموية وإهمال مقاربة التخطيط الاستراتيجي فأصبحت الدولة تدار بطريقة ارتجالية معتمدة أساسا على قوانين المالية التي ليس من مشمولاتها القيام بإصلاحات كبرى وإنجاز مشاريع تنموية وخلق مواطن شغل. لذلك فإن المشكل سياسي في جوهره ويرتبط بغياب الاستقرار السياسي وسعي الأطراف الحاكمة سواء منها التي حكمت بعد 2011 أو التي أنتجتها منظومة دستور 2014 إلى تدمير هياكل الدولة مما أدى إلى إصدار قوانين مالية على عدد وزراء المالية بل على عدد الحكومات برمتها. ووصل الأمر إلى أن تعد حكومة مشروع قانون ثم تناوبها حكومة أخرى في السنة نفسها فلا الحكومة الأولى واصلت تنفيذ ما برمجته ولا الحكومة الثانية التزمت بما تسلمته فيسهل عليها إيجاد المبررات في صورة فشلها وما أكثر حالات الفشل. كما أدت الارتجالية والتجاذبات السياسية إلى اللجوء كل سنة إلى إضافة ميزانية تكميلية إلى جانب الميزانية الأصلية جراء التقديرات الخاطئة بما يصاحب ذلك من سقوط في مستنقع التداين الخارجي والارتهان والتفريط في السيادة المالية والوطنية.
ولم يكن حال السلطة التشريعية أفضل حيث كانت قوانين المالية تناقش ظاهريا بطريقة ديمقراطية وشفافة بل وتبث مداولاتها مباشرة على الهواء، أما في الكواليس فكانت تعقد الصفقات وتعدل الفصول على المقاس ويسقط ما تناقض منها مع مصالح بعض القوى المعادية لمصالح الشعب. وعلى سبيل المثال تم بمناسبة نقاش قانون المالية لسنة 2019 رفض توظيف مساهمة بواحد بالمائة على أرباح شركات البترول والبنوك ووكالات التأمين لتمويل الصناديق الاجتماعية بعد أن تمت المصادقة عليه في اليوم السابق. كما تم تأجيل رفض رفع نسبة الضريبة عل الأرباح والتي كانت ستوظف على أصحاب المساحات التجارية الكبرى. والأدهى من كل هذا أن تصاغ قوانين المالية على غرار عديد القوانين بتوجيهات خبراء تابعين لمنظمات أجنبية مشبوهة مثل المعهد الديمقراطي الأمريكي. وهكذا عجزت قوانين المالية على الدفع بالتنمية وخلق مواطن الشغل والقضاء على التفاوت الجهوي في ظل غياب مخططات تنموية باستثناء المخطط التنموي للفترة 2016 -2020 والذي لم يصدر إلا سنة 2017 ولم يقع تنفيذ إلا النزر القليل من برامحه بعد أن مرت عليه أربع حكومات. كما تلكأت الحكومات نفسها في إعداد المخطط الموالي 2021-2025. وتم في المقابل وبدعوى تجاوز محدودية قانون المالية السنوي إصدار القانون الأساسي للميزانية سنة 2019 لكن بهدف تقليص دور الدولة في مجال التنمية وإتاحة تعامل الأطراف الأجنبية مباشرة مع الفاعلين الاقتصاديين. وفيما يخص قانون المالية لسنة 2022 وبقطع النظر عما يحتوي عليه من تدابير فإنه لن يحل المشاكل المتراكمة سواء الاقتصادية أو الاجتماعية بل قد يخفف منها مما يستوجب الشروع في أقرب الأوقات في إعداد مخطط تنموي يرسم خطة استراتيجية وهو ما دأبت الدولة على اعتماده دون انقطاع منذ ستينات القرن الماضي بداية من المخطط التنموي الثلاثي (1962-1964) وآفاق العشرية (1962-1971) التي استندت على التقرير الصادر عن مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل المنعقد سنة 1956.
وحتى يحقق المخطط المنشود النمو الاقتصادي ويستجيب للاستحقاقات الاجتماعية وفي مقدمتها التشغيل لا بد من استعادة نموذج الدولة الراعية التي بينت تجربة الكوفيد 19 مواصلة قيامها بدور أساسي حتى في أكثر الأنظمة الاقتصادية ليبيرالية.
د. بدر السماوي – الشروق – 01 جانفي 2022 – ” نافذة على الوطن”