يمثل الحوار الاجتماعي بين الشركاء الاجتماعيين وهم الحكومات والمؤجرون والأجراء أهم ضمانة لتعزيز النمو الاقتصادي وتوفير الرفاه الاجتماعي. وفي غياب الحوار يصاب الاقتصاد بالشلل وتتدهور أحوال عموم الشعب. وعلى عكس ما قد يتبادر إلى الأذهان لم يكن حال الحوار الاجتماعي خلال العشرية الأخيرة أفضل من الواقع الاقتصادي والاجتماعي. فقد تم منذ شهر مارس 2011 حل المجلس الاقتصادي والاجتماعي المحدث بمقتضى دستور 1959 وبقانون صدر سنة 1961 والذي كان أول مجلس من نوعه في أفريقيا والوطن العربي وكان يستشار في مشاريع القوانين ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي. وتم تعويضه في دستور 2014 بهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة التي من المفروض أن تستشار في نفس المواضيع لكن القانون المنظم لمهامها وصلاحياتها وتركيبتها لم يصدر إلا سنة 2019 دون أن يتم تركيزها حتى اليوم. ثم كان العقد الاجتماعي بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية الذي تم إمضاؤه تحت قبة المجلس التأسيسي في 14 جانفي 2013 والذي رسم أربعة أهداف وهي إرساء منوال جديد للتنمية ووضع سياسات نشيطة للتشغيل وللتكوين المهني والنهوض بالعلاقات الشغلية وإحكام التصرّف في أنظمة الحماية الاجتماعية.
وتمثل الهدف الخامس في مأسسة الحوار الاجتماعي. وعلاوة على عدم التقدم في تحقيق الأهداف الأربعة الأولى لم يقع تضمين الحوار الاجتماعي في دستور 2014. ولم يكن الأمر صدفة ذلك أن الحوار الاجتماعي يفترض حدا أدنى من الاستقرار السياسي وهو ما لم يكن متوفرا آنذاك بل طغى مكانه العنف والإرهاب. فقد أمضي العقد الاجتماعي بعد أسابيع قليلة من الاعتداء الذي نفذته مليشيات مدفوعة من الثالوث الحاكم على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل في ذكرى اغتيال مؤسسه الزعيم الوطني فرحات حشاد. كما أمضي قبيل بضعة أسابيع من أول جريمة اغتيال سياسي بعد 2011 والتي ذهب ضحيتها الشهيد شكري بلعيد والمتهم فيها الحزب السياسي الرئيسي في السلطة آنذاك. وعلى إثر صدور دستور 2014 واصلت المنظمات الاجتماعية الممضية على العقد الاجتماعي مطالبتها بمأسسة الحوار الاجتماعي ولم تنجح في مسعاها إلا بعد أكثر من ثلاث سنوات حيث صدر في جويلية 2017 القانون المحدث للمجلس الوطني للحوار الاجتماعي. ولم يصدر الأمران الحكوميان المتعلقان بتنظيمه الإداري والمالي وبضبط عدد أعضائه إلا في أوت 2018.
أما على المستوى التطبيق فلم يجتمع المجلس منذ إحداثه سوى مرة واحدة كما عمدت الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2017 على إصدار عدة نصوص قانونية دون استشارة المجلس مثلما ينص على ذلك القانون المؤسس له. وهكذا لم تشهد العشرية الأخيرة إرادة سياسية لتفعيل الحوار الاجتماعي ففاقد الشيء لا يعطيه وهي سمة أخرى من سمات مخطط تفكيك هياكل الدولة وتدمير الاقتصاد. ولم تتحقق بعض الإنجازات إلا بفضل حرص المنظمات الوطنية وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل. ولا يعني هذا التقييم أن الحوار الاجتماعي كان في أبهى مظاهره قبل 2011 فقد عرف المد والجزر لكنه ظل محافظا على الحد الأدنى بما مكن من مشاركة مكوناته الرئيسية في بناء الدولة الوطنية وحماية عدة مكاسب اجتماعية.
أما اليوم وبعد حراك 25 جويلية 2021 وما نتج عنه من قرارات سياسية أعادت الأمل إلى التونسيين فإن دفع عجلة التنمية الاقتصادية وبعث مواطن الشغل وتحسين ظروف العيش رهين صياغة عقد اجتماعي جديد تقوده نظرة وطنية ويؤدي إلى إطلاق حوار صادق وناجع بين الشركاء الاجتماعيين بهدف الاتفاق على خيارات تهم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمساهمة في حلحلة المشاكل المتراكمة بناء على تقاسم الأعباء والتضحيات. أما على المستوى الهيكلي فيمكن تفعيل المجلس الوطني للحوار الاجتماعي بالاستفادة من تجربة المجلس الاقتصادي والاجتماعي وإعادة النظر في صلاحيات هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة تجنبا للازدواجية مع صلاحيات المجلس الوطني للحوار الاجتماعي.
بقلم د. بدر السماوي – الشروق : 24 ديسمبر 2021