يوافق 16 مارس من كل سنة اليوم الوطني للباس التقليدي منذ تم إقراره سنة 1996 بهدف التعريف به ومد صلته للأجيال القادمة وتواصلت هذه الاحتفالية لتشمل مؤسسات الدولة وخاصة التعليمية منها. وقد عبر الاتجاه بالعناية باللباس التقليدي على رغبة الدولة التونسية في الحفاظ على خصوصياتها التراثية والحضارية واعتزازا بهويتها العربية ودفعا للحرف التقليدية للصمود أمام المستجدات العالمية التي جلبت إلينا خطوطا جديدة من الموضة والذوق والسلوك متأثرة في ذلك بما أطلق عليه “عصر العولمة” الذي يسعى لطمس ثقافات الشعوب وتراثها لفائدة ثقافة جديدة وغالبة وغريبة وهجينة.
وقد تطورت مظاهر الاحتفاء باللباس التقليدي لتلمس أجيالا وأعمارا مختلفة داخل المؤسسات العمومية والتربوية علاوة على الأفراح العائلية والاحتفالات الدينية التي أصبحت تمثل مناسبات لتجديد التمسك باللباس التقليدي الذي أصبح عُرفا بل قانونا شعبيا لا يقبل الاعتراض، لذلك لا يمكن أن تتخيل عروس الساحل التونسي وعروس صفاقس إلا بلباسهما البراق “بالتل” الفضي و” الكنتيل” و” العقيق” الذهبي و”بصخاب” المسك والعنبر وكذلك عروس الجنوب وهي ترفل في لباس ” الحولي” بألوان الربيع وبحليها المعقود فوق عصابة رأسها وكذلك عروس الشمال الغربي ترتدي نوعا مميزا من “الملية” و”الحرام”، وفي الوطن القبلي لباس ” الدخلة” بينما تلتحف النسوة والفتيات ب ” الفوطة ” و” البلوزة ” وأنواع متنوعة من “القمجة” إضافة إلى “البرنس النسوي” و”القفطان” ويرتدي الرجال “الجبة” و”الصدريات” و”البرنوس” و”القشابية”.
ولا يتسع المجال هنا لذكر كل أنواع اللباس التقليدي في تونس سواء اليومي أو الاحتفالي ويعود ذلك إلى التنوع الكبير في العناصر الجمالية التي يحتويها إضافة للتأثيرات البدوية والحضرية وما به من مزيج عجيب من الخصوصيات الحضارية المشرقية والمغربية والأندلسية ومن فنون التجريد العربي كالرقش النباتي وزخارف هندسية وعناصر الزينة في هذا اللباس العجيب الذي لا يخلو من الرمزية والدلالات التراثية الضاربة في عمق التاريخ، فلباسنا التقليدي يحمل مثلا توشيحات وزخارف تدل على القبيلة والبطن والنجع وهي ذاتها تجدها في وشم المرأة البدوية وفي بُرنس الرجل ومنها أيضا الوسم الذي يميز الإبل عن بعضها وتجد في الخطوط الأفقية والعمودية للباس ألوان زهور الربيع والطيف النباتي في كل فصل وحسب كل بيئة وكل جهة.
أما الرموز والأشكال التي يحتويها فهي، لمن يتمعن ويبحث عن سرها، ذات دلالة كبرى ولم تكن بالصدفة وتجاوزت طرافتها ما هو شائع ومعروف لتأخذك لعالم يتراوح بين عظمة التاريخ وروعة الحكايات وسحر الأساطير فالنجمة الثمانية تدل على المعرفة الواعية الأولى للإنسان العربي حين اكتشف بالترحال الاتجاهات الأربعة ثم قسّم السنة إلى أربعة فصول فدمج هذا المفهوم في النجمة الثمانية مبيّنا ترابط الاتجاهات مع الفصول، لذلك تجدها في زخارف الآشوريين والبابليين والكنعانيين والقرطاجيين. واضيفت لها مع الإسلام مفاهيم أخرى كعناصر الطبيعة الأربعة وهي الماء والنار والهواء والتربة وتفاعلاتها، أما النجمة السداسية فهي تعني التطابق والزواج المقدس بين الأرض والسماء والمطر الذي يهطل على الأرض فينبت الزرع، وورثت رمزيتها عشتار الجدة المنجبة التي يرمز لها أيضا بالسمكة المخصبة وبجريدة النخل وخُمسة اليد، أما قرن الغزال فهو الجد أو “الجدي أدونيس” زوج عشتار الملازم للسمكة.
لذا يبدو جليا أن التمسك باللباس التقليدي على المستوى الشعبي عميق وذو دلالات حضارية موروثة وراسخة ومليء بالإيحاءات الرمزية وبالمفاهيم الثقافية المشتركة للشعب العربي مع بعض الميزات والخصوصيات من قُطر إلى آخر ومن جهة إلى أخرى داهل كل قطر علاوة على الأهمية الاقتصادية التي يكتسيها باعتباره مُحفّزا لقطاع حرفي هام ونظرا لاعتماد صناعة اللباس التقليدي رئيسيا على الخامات المحلية والمهارات الفنية الأصيلة.
إن الاهتمام بهذا المجال من كافة النواحي من شأنه أن يساهم في تطويره وتجديده بما ينعكس على جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حتى يظل لباسنا عنوانا لأصالتنا وهويتنا وتاريخنا مثله مثل لغتنا ومأكلنا ومسكننا وفننا وليس مادة فلكلورية أو علامة إشهارية.
محمد زياد الماهر، الشروق : 14 مارس 2022