نحو إصلاح المشهد الإعلامي

    “قمع الحريات”، “تكميم الأفواه”، “الصحافة في خطر”، “إسقاط المرسوم 54″، التنديد باعتقال رئيس تحرير محطة إذاعية نور الدين بوطار بدعوى رفض الخط التحريري لإذاعته، الغرب في حالة فزع. منظمة “صحفيون بلا حدود” تندد، “منظمة العفو الدولية” تصرخ، “هيُومن رايس ووتش” تئنّ. هذا غيض من فيض مما يروّجه الإعلام ليلا نهارا وما يردده من بكائيات حول قمع حرية التعبير، وكأنهم يتحدثون عن كوكب آخر، في حين نراهم فوق الأرض التونسية يتظاهرون ويحتجّون ويعقدون المنابر ليلا نهارا يشتمون ويكذبون، لم نسمع بقناة أُغلقت أو إذاعة كُمّمت أو صحيفة صودرت، حتى بوطار الابن المدلل للبرلمان الأوروبي والمتهم في قضية تبييض أموال أطلق سراحه بعد أن دفع المليار. فما حقيقة المشهد الإعلامي في بلادنا والذي لا يقل أهمية على الأمن الغذائي أو المائي، ولا يقل خطورة عن القنابل والرصاص والألغام، بل إن ما يصدر عن بعض وسائل الإعلام يكون أحيانا أشد قسوة وأكثر ضررا؟

من الفلتان الإعلامي إلى 25 جويلية

      بدأت الحكاية ذات يوم بعد 14 جانفي 2011 حيث انقلب تلجيم الإعلام إلى نقيضه متجسدا في فلتان إعلامي منقطع النظير فأصبح فيه كل شيء مباحا باسم حرية التعبير وحرية الإعلام والحق في المعلومة. فتكاثرت الوسائل الإعلامية كالفقاعات لتتحوّل حرية الصحافة من نعمة إلى نقمة وتخمة وأصبحنا نعيش مظاهر من السباب والشتم وهتك الأعراض والأكاذيب وبث البلبلة والتلاعب بالرأي العام، حتى أضحى المواطن في دوامة لا يميز بين الحق والباطل.

أما عن شبكات التواصل الاجتماعي فحدث ولا حرج فمن نشر الأخبار الكاذبة إلى هتك الأعراض إلى الاختفاء وراء أسماء نكرة…

     وحين تفطّن الشعب ذات يوم إلى الخديعة التي تعرّض لها طوال العشرية السوداء وثار ضد حكم النهضة وحلفائها في 25 جويلية 2021، بدأت قلاع تخريب الدولة والمجتمع تتهاوى من برلمان المصلحة والمحاصصة إلى قضاء البحيري وتبييض الإرهاب إلى مواقع التخريب والاندساس والتمكين. ولكن  قلعة الإعلام المشبوه ظلّت مستعصية  تثير كل أنواع الضجيج للمحافظة على مكاسبها التي حصلت عليها خلال العشرية السوداء.

التغلغل الأجنبي في الإعلام

تتكشّف اليوم شبكات الصحافيين المرتبطين بجهات أجنبية تتلقى التمويلات من الغرب الاستعماري ومن حركة الإخوان العالمية وعبر بعض منظمات المجتمع المدني المشبوهة. وقد سبق أن أكد الرئيس قيس سعيد تدفق أموال من الخارج على صحافيين. واليوم نسمع بفضائح “شبكة محرّري الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” و “أكاديميةOn Air formation ” و“مملكة أطلنطس” وغيرها لنستفيق على خطورة التغلغل الأجنبي في الإعلام وعن اللوبيات المحلية السياسية والمالية. فقضية بوطار مثلا يقدمها البعض على أنّها تستهدف الخط التحريري لإذاعته، بينما تواصل الإذاعة عملها بنفس الخط ويسكتون على سر تحول صاحبها من صحفي عادي إلى مليونير.  

حقيقة المرسوم 54

ما انفكت بعض القوى تثير موضوع المرسوم عدد 54  المؤرخ في 13 سبتمبر 2022 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال وتقدمه على أنه أداة ضرب الإعلام. وهو في الحقيقة يتعلق بحماية الفضاء السيبراني الوطني وحماية مستعملي تكنولوجيا المعلومات والاتصال من الاعتداءات والهجمات الألكترونية التي تمس الوطن والأفراد ضحايا التحيل والاختلاس والتجسس والابتزاز والقرصنة. وكل الانتقادات الموجهة لهذا المرسوم تنحصر في الفصل 24 الذي ينص على عقوبات قابلة للنقاش. فلئن كانت حرية الرأي حقا مكفولة بالدستور وضرورة حياتية فليس من المسموح أن تتحول إلى فلتان إعلامي وبث البلبلة وترويج الرداءة والتفاهة والسوقية وخدمة الأجندات السياسية المعادية للوطن والشعب.

من أجل إعلام وطني في خدمة الشعب

 من المؤسف ألا يعبر أهل قطاع الإعلام عن غيرتهم على مهمتهم المقدّسة بتحصينها من الاختراق الأجنبي، ومن المخجل أن تُستعمل حرية التعبير مطية للبقاء بعيدا عن المحاسبة وأن يتم العمل بقاعدة “انصر أخاك ظالما أو مظلوما”. والأخطر من كل هذا أن تتحول النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى طرف سياسي معادٖ لمسار 25 جويلية. 

لقد آن الأوان للصحافيين أن ينقذوا قطاعهم وأن يجعلوه في خدمة الوطن والنهوض بالشعب. ويمكن في إطار مجلس نواب الشعب إعادة النظر في المرسوم 54 وفي وضعية الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري.  

 أيها الإعلاميون، ارأفوا بشعبنا العزيز وارحموا أبصارنا وأسماعنا واصنعوا لنا إعلاما وطنيا حرا.

نحو إصلاح المشهد الإعلامي
أنشره
الموسومة على: