نحو إصلاح شامل لمنظومتنا التربوية (2/1)

تعيش منظومتنا التعليمية أزمة خانقة من مؤشراتها تراجع ترتيبها عالمياً وعربياً، حيث أشارت دراسة لـ”منظمة الاقتصاد والتعاون والتنمية الدولية” أن تونس تأتي في المرتبة 64 من أصل 76 دولة أجريت عليها الدراسة. ويتجلى تقهقر منظومتنا التربوية في تدني المستوى التعليمي وافتقار الطلبة إلى مؤهلات مناسبة بعد التخرّج، وعدم تحديث المناهج مما أدى إلى انحدار قدرات التلاميذ، ففقدت المدرسة مصداقيتها وأصبحت منتجاً لمواطن هو أقرب إلى الأمية، إذ أنه بالإمكان دون مبالغة وجود شبان في المراحل الإعدادية أو حتى الثانوية لا يحسنون كتابة أسمائهم.

وأصبح التعليم يقتصر في أغلب الأحيان على القصف العشوائي والمكثف للمعلومات دون تنزيلها في الواقع المُعاش والاستفادة منها وإنما التوسع والتمدد في الكم ظنا أن ذلك مفيد وصحي والجميع يعلم أن الانسان الذي يتناول كميات أكثر من احتياجاته الغذائية لا يزداد قوة وحيوية بل يصاب بالتخمة والبدانة وحتى ببعض الأمراض التي قد تؤدي إلى الوفاة مما جعل منظومتنا التعليمية تقدم كما من المعلومات يتم حفظها عن ظهر قلب لتكون وسيلة للنجاح في الامتحانات لا غير بقطع النظر عن مضمونها وعن الآفاق المهنية التي توفرها.

وعلاوة على ذلك وقع التركيز على الكم في النجاح دون مبدأ الكفاءة حسب معايير صارمة وموضوعية تضمن جودة الشهادات وقيمتها حتى لا يرتقي إلى المراتب العلمية العليا إلا من تحصل على الكفاءات اللازمة ومثال ذلك المناظرات الوطنية مثل شهادة ختم التعليم الابتدائي وشهادة ختم التعليم الأساسي وشهادة الباكالوريا. كما ساهم في تدهور المنظومة التعليمية ضياع الوازع الأخلاقي وفقدان العلم لدوره كمصعد اجتماعي وانهيار المنظومة القيمية والأخلاقية لمجتمعنا، وعدم توفر الإمكانية لكي يُنزِّل ذوو العلم معارفهم على الواقع وبالتالي الاستفادة منها ماديا ومعنويا، بل صار طلبة العلم يأتون إلى المؤسسات التعليمية مُكرَهين. وانتشرت أيضا ظواهر خطيرة مثل الانقطاع عن التعليم والانتحار والتسول والعمل في القطاع الموازي في سن مبكرة وتعاطي المخدرات وتفشت مؤخرا ظاهرة العنف الجسدي واللفظي سواء ضد الأساتذة أو فيما بين التلامذة أنفسهم.

وتدنت منزلة المعلم الاعتبارية بعد أن كانت الأجيال تنشأ على احترامه وكانت تحيط برجالات التعليم، هالة من التبجيل والتكريم حيث كانت تُرَدَّد قصيدة أمير الشعراء ‘قم للمعلم وفّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا’. غير أن بعض المربين يتحملون دورا فيما آلت إليه المنظومة التربوية حيث لا يقومون بالعمل المنوط بعهدتهم في القسم ولا يقدمون المعلومة التي ُتمكَّن من تطوير المدارك والمعارف وإنما يعطونها في دروس التدارك التي يعرضونها على تلاميذهم خارج القسم بمقابل حتى يحصل التلميذ على عدد ممتاز في الامتحان.

وبذلك برزت السمسرة والغش والتفريق بين الطبقات الاجتماعية في المؤسسات التعليمية، وغاب عن المدرسة والمعهد والجامعة مبدأ تكافؤ الفرص للجميع والحيلولة دون فرز طاقات تتمتع بالكفاءة. وسادت الفوضى في التلاؤم بين ما يجب أن يعطى وما يمكن أن يقبل فما يدرس في الاعدادي يعطى للتلميذ في الابتدائي وما يفترض ان يتعلمه التلميذ في الابتدائي يعطى له في الروضة مما تسبب في ظاهرة رفض تام للعملية التعليمية وهذه قمة المهازل فترى على سبيل المثال في كتب العلوم للثالث الابتدائي تشريح جسم الإنسان والأسماك وأنواعها وتقسيم النباتات وانواع الاشجار وأوراقها وعلوم الفلك والجيولوجيا بينما لا يتقن التلميذ الكتابة على السطر. ويعاني التلميذ من ازدواجية الكتب حيث أصبحت لكل مادة كتابان: كتاب الفصل وكتاب النشاط أو التمارين مما يقلل من الألفة بين الدارس وكتابه. كما يقع تدريس اللغة الأجنبية للتلميذ على النهج الذي تدرس به في بلادها الأصلية وكأنها لغته الأم وليست لغة ثانية أو ثالثة والأدهى أن هذا المنهج أضحى إجباريا في المدارس الخاصة فأصبح التلميذ يدرس ثلاث لغات في آن واحد وهو في مرحلة لا يستطيع فيها إنشاء وتركيب جملة بلغته العربية الأصلية بتمكن. وساءت ظروف البنية التحتية للمؤسسات التربوية وانخفضت نسبة الميزانية المخصصة للتعليم في ميزانية الدولة.

بقلم: فتحي الماهر، أستاذ، جمّال صدر بجريدة الشروق بتاريخ 21 فيفري 2022

نحو إصلاح شامل لمنظومتنا التربوية (2/1)
أنشره