استعرضنا في الحلقة الأولى من هذا المقال مظاهر تدهور المنظومة التعليمية في تونس والتي لم توجد إلى حد الآن بوادر إصلاحها. ومن الواضح أن الحكومات المتعاقبة كانت واقعة تحت ضغط صندوق النقد الدولي الداعية إلى تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي وتشجيع القطاع الخاص وخاصة منه الأجنبي على الاستثمار في التعليم. فقد أصبح صندوق النقد الدولي يتدخل في السياسات التعليمية للبلاد لتوجيه القطاع نحو “الخصخصة” بما يعني الاتجار بالمعرفة أو ما يتعارف عليه بـ “سلعنة المعرفة” على أساس أنه “قطاع غير منتج “. كما أن الحكومات المتعاقبة واقعة تحت ضغط البنك الدولي الذي يسعى إلى قبر التعليم المهني التقني لفسح المجال لبعض اللوبيات لخصخصة هذا القطاع الذي من المفروض أن يساهم في إعداد القوى العاملة المؤهلة مهنيا وسلوكيا لممارسة المهن أو الاشراف عليها. فقد كان التعليم المهني والتقني أحد المكونات الرئيسة لتنمية الموارد البشرية التي بدورها تؤدي إلى تحقيق التنمية في القطاعات الاجتماعية والاقتصادية للدولة. فدور التعليم والتدريب أساسيان للإنتاجية ورفع القدرة التنافسية للأنشطة الاقتصادية مثلما يُعدّ أهم وسيلة لبناء المجتمعات في مواجهة التغيرات الهائلة والمشكلات المعقدة، ونذكر في هذا السياق كيف أسست جبهة التحرير الوطني الجزائرية الصناعة الوطنية الجزائرية اعتمادا على مجموعة من التقنيين الساميين لا غير.
إن إصلاح منظومتنا التعليمية ممكن بالاعتماد على طاقاتنا وكفاءاتنا ولا يمكن القبول بالتدخل في شؤونها أو تكليف مؤسسات أجنبية بإصلاحها فتونس هي التي أنجبت العلامة ابن خلدون الذي أكد على أن أهم غايات التربية تهذيب المتعلِّم وإكسابه خصالاً حميدة وتنشيط فكره وتحفيزه، ونادى بعدم إثقال كاهل المتعلِّم، خاصة في بداية تحصيله، حتى لا ينفر من التحصيل العلمي. لذلك فإن إصلاح التعليم ضروري لإصلاح المجتمع برمته وهو ما يتطلب إيلاء الدور التربوي للمعلمين والأساتذة الأهمية اللازمة وتقديم الدروس باللغة الأم وهي اللغة العربية حتى يتمكن منها المتلقي بما يؤدي دون انعزال عن المحيط العالمي والإقليمي إلى بعث منوال تنموي وطني ومشروع حضاري طموح للتصنيع والبحث العلمي وامتلاك العلوم الحديثة القادرة على خلق سوق شغل تستوعب المتخرجين ذوي المهارات والكفاءات الحقيقية وتكون ركيزة الاقتصاد الوطني. كما يستوجب الاهتمام بالتعليم التقني في ضوء الحاجة الى تحقيق مستويات عالية من التوازن بين مخرجات العملية التعليمية وبين حاجة النشاط الاقتصادي والاعتماد من الناحية البيداغوجية على التنشيط والتفاعل والممارسة وإعطاء الأمثلة والابتعاد قدر المستطاع عن التلقين. ولا بد من الاهتمام بتعليم التفكير العلمي وطرق حل المشكلات وربط المناهج بالبيئة المحيطة بالمتعلم مع الأخذ في الاعتبار المستجدات التكنولوجية. ويجب أن تكون أجور المعلمين والأساتذة مناسبة حتى يتمكنوا من العمل في ظروف مادية ونفسية مريحة فيبدعون ويتميزون ويتصرفون على أساس أنهم قدوة للتلميذ مع اختيار المؤهلين نفسياً وعلمياً للتدريس ومحاربة الدروس الخصوصية. وإضافة إلى ما سبق فإن من أهم التحديات الجديدة التفكير في سبل تلافي الاضرار التي لحقت بالمستوى التعليمي نتيجة تداعيات الكوفيد 19 وما نتج عنها من تعطل للدروس في مرحلة معينة ثم نظام الأفواج في مرحلة ثانية.
وبقدر ما كانت الظروف السياسية ما قبل 25 جويلية ملغومة بفعل حكم حركة النهضة وتوابعها وسعيها إلى تدمير التعليم الوطني العمومي بهدف نشر الجهل عبر التعليم الموازي الذي كرسته مدرسة الرقاب وفرع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وغيرها من الجمعيات الدعوية المشبوهة بقدر ما أصبحت الظروف السياسية اليوم مناسبة لطرح ملف المنظومة التربوية. ولعل الاستشارة الوطنية في بابها المتعلق بالشأن التربوي خطوة أولى في هذا الاتجاه حيث تطرقت في المحور المتعلق بالشأن التربوي إلى أهم الإشكاليات من خلال الاحتمالات التي على المواطن اختيارها حسب الأولوية مثل مدى تلاؤم المحتوى والمناهج التربوية والتقص في الإطار التربوي ونقص التجهيزات والمعدات البيداغوجية والبنية التحتية المهترئة والاكتظاظ في الأقسام والانقطاع المدرسي والعنف في المدارس وانتشار ظاهرة الإدمان وتوقيت الحصص ونظام العطل غير الملائم وكلفة التعليم. وهذا لا يحول دون مواصلة مجهود الإصلاح عبر آليات أخرى ذلك أن النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي رهين جودة المنظومة التعليمية.
بقلم: فتحي الماهر، أستاذ، جمّال صدر بجريدة الشروق بتاريخ 28 فيفري 2022