بقلم د. بدر السماوي – جريدة الشروق : 8 جانفي 2024
يدخل اليوم طوفان الأقصى شهره الرابع مُسجلا رقما قياسيا في طول مدة المواجهة مع الكيان الصهيوني منذ اغتصاب فلسطين سنة 1948. وبقدر ما يتابع الناس تطور الأحداث ويعبرون على مساندتهم المطلقة لحق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه، وبقدر ما يستنكرون العدوان الصهيوني الهمجي على الأطفال والنساء والجرحى الذي تحول إلى حرب إبادة، بقدر ما يتطلعون إلى مستقبل غزة ومن رائها إلى مستقبل فلسطين. فشل الأهداف المعلنة للصهاينة عمل الكيان الصهيوني على تهجير سكان غزة لكنه فشل حيث يرابط سكانها على أرضهم ولم يغادروها رغم آلاف الأطنان من القنابل الملقاة عليهم. وفي المقابل يفرّ سكان المغتصبات سواء تلك القريبة من غزة أو من جنوب لبنان. وقد كان الهدف المعلن للصهاينة القضاء على المقاومة بينما ما زالت المقاومة تواجه العدو في اليوم الواحد والتسعين وكأنها في فجر السابع من أكتوبر.
وقد كان هدف العدو عزل الضفة وترويعها للاستفراد بغزة لكن الضفة تحولت إلى جبهة استنزاف أخرى للعدو بل إن المجاهدين فيها كانوا وسيظلون خير داعم لإخوانهم في الأراضي المحتلة عام 1948. كما حاول العدو إقامة حزام عازل في غزة وفي لبنان، وكأنه منتصر، في حين أن المقاومة الفلسطينية هي التي دمرت حزام العدو حول غزة مثلما فرضت المقاومة اللبنانية حزاما مدمَّرا عليه شمال فلسطين. ارتباك الصهاينة وجُبنُهم من أهم المظاهر التي تنبئ بانهيار الكيان الصهيوني الارتباك الحاصل لديه فها هو يعلن من جهة عزمه القضاء على المقاومة ويتفاوض من جهة أخرى معها بصورة غير مباشرة. وبعد أن كان الجيش الصهيوني يُعتبر جيشا لا يقهر ها أن أقوى تشكيلاته وهي لواء غولاني تنسحب من غزة منهزمة وها أن جنوده أصبحوا بفعل الصدمة يتبولون على أنفسهم ليلا.
وبعد أن سخّر العدو كل جهده لتحرير أسراه لدى المقاومة بالقوة، فإذا به يقتل أسراه دون أن يتمكن من إنقاذ صهيوني واحد. وفي حين يُنكّل العدو بالأسرى الفلسطينيين لديه أعطت المقاومة نموذجا في التعامل الإنساني واحترام القيم الكونية والعربية والإسلامية على مرأى ومسمع العالم أجمع. ومن آخر مظاهر جُبن الصهاينة نقلهم المعركة إلى خارج فلسطين من ذلك اغتيال القائد صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ورفاقه في بيروت متناسين قدرة الشعب الفلسطيني على إنجاب أمثال صالح العاروري. فضح تيار التطبيع فضحت ملحمة طوفان الأقصى تيار الاستسلام والخنوع وآخرهم الممضون على اتفاقيات ابراهام وأعادت زخم حملات المقاطعة من ذلك قطع بعض البلدان مثل بوليفيا العلاقات مع الكيان الصهيوني ورفع بعض البلدان من بينها جنوب افريقيا قضايا ضده أمام محكمة العدل الدولية متهمة إياه بشن حرب إبادة جماعية. ولئن قامت عدة قوى وطنية في بعض الأقطار العربية في السنوات الأخيرة بنضالات للتنديد باتفاقيات التطبيع إلا أن طوفان الأقصى مثل ضربة قاضية لحلف التطبيع ليس فقط في البلدان العربية التي أمضت اتفاقيات بل أيضا لمن كانت تستعد لذلك مثل ليبيا التي شرعت عبر وزيرة خارجيتها في اتصالات مع الصهاينة في شهر أوت 2023 فإذا بها تمنع الأسبوع الماضي الطائرات والسفن الصهيونية من عبور أجوائها ومياهها.
ومن ناحية أخرى فقد فضحت معركة طوفان الأقصى ما بقي من رواسب اتفاق أوسلو على الصعيد الفلسطيني مثل التنسيق الأمني التي تقيمه السلطة الفلسطينية في رام الله. صلابة المقاومة وصمودها أكدت كتائب القسام وسرايا القدس وكل الفصائل الفلسطينية أن المقاومة المسلحة بخير وأن أضرارها جزئية وأن ما أعدته من مفاجآت مدوية كثير مما يبشر بسير المعركة نحو النصر رغم الشهداء والجرحى والمفقودين. فالتحرير يتطلب تضحيات والتاريخ يشهد أن الجزائر تحررت بتقديم مليون ونصف المليون شهيد وفيتنام بستة ملايين شهيد. وبرهنت المقاومة على نضج كبير من خلال وحدتها الصلبة التي كرستها على أرض الميدان. ومما زاد المقاومة قوة جبهات الإسناد التي فتحت نيرانها من كل حدب وصوب من ذلك تدمير مواقع العدو العسكرية على الحدود مع لبنان وخنقه اقتصاديا وقصفه بالمسيرات والصواريخ من بوابة اليمن، وتدمير العراق للقوات الأمريكية دون إغفال دور إيران الإسنادي على كل المستويات. وقد أكدت هذه التطورات أن محور المقاومة أمر واقع وهو بصدد الالتحام والتنسيق. ويحق لنا في تونس أن نستبشر بانتصار غزة ليس فقط بسبب ما أوردناه أعلاه من معطيات ميدانية وهي بالتأكيد حاسمة ومحددة بل أيضا لما ساهم به شعبنا على مدى عقود لدعم قضية فلسطين سواء باحتضان الفلسطينيين عند إخراجهم من بيروت أو بتطوع تونسيين واستشهاد بعضهم فداء لفلسطين. ومما يعزز ثقتنا في النصر اليوم أيضا مواقف السلطة السياسية ممثلة في رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي اعتبر التطبيع خيانة عظمى والذي أعلن على يقينه أن فلسطين ستتحرر كلها وسيقيم الشعب الفلسطيني على أرضه في دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.