هل الحديث عن “الدولة الوطنية” تخلّ عن مفهوم الطابع الطبقي للدولة؟

يرى البعض أنّ الحديث عن “الدولة الوطنية” (“استقلال تونس” و”الجيوش والأجهزة الأمنية الوطنية”..) يمثل تخلّيا عن المفهوم الطبقي للدولة. وهذا يعني حسب هؤلاء أنّ الإقرار بالطابع الطبقي للدولة لا يكمن إلاّ في اعتبارها “كمبرادورية إقطاعية”، وأنّ إسناد أيّ دور أو موقع للبرجوازية الوطنية والطبقات الشعبية الأخرى في مستوى هذه الدولة يُساوي التخلّي عن مفهوم “الطابع الطبقي” للدولة، أي عن التحديد الطبقي للدولة.

عن أيّة دولة نتحدث؟

الدولة التي يدور الخلاف حول تحديد طبيعتها هي الدولة التي برزت كتتويج لحركات التحرّر الوطني والتي حققت جلاء الجيوش الاستعمارية عن أراضيها. ويُمكن تصنيفها إلى نوعين:

  • الدول التي ظهرت في البلدان التي قادت فيها حركات التحرر الوطني قُوى وطنية تنتمي إلى البرجوازية الوطنية على غرار أقطارنا العربية وبلدان في قارة أمريكا الجنوبية وآسيا وإفريقيا،
  • دُول أخرى قادت فيها حركة التحرر الوطني أحزاب شيوعية على غرار الصين وبلدان جنوب شرقي آسيا (فيتنام واللاوس وكمبوديا) وكوريا.

ومعلوم أنّ الدول التي كانت الأحزاب الشيوعية وراء ظهورها هي “دول الديمقراطية الجديدة الخاضعة للدكتاتورية المشتركة لعدّة طبقات مناهضة للإمبريالية“، أي أنّ طابعها الطبقي هو “الديكتاتورية المشتركة لعدة طبقات ثورية” من بينها البرجوازية الوطنية إلى جانب العمال وفقراء وصغار الفلاحين.

فماذا عن الصنف الآخر من هذه الدول وهل يصح توصيفها في العام بالدول “الراعية الوفيّة لمصالح البرجوازية الكبيرة والدوائر الأجنبية”؟..بالتأكيد لا..

 الاحتكام إلى الواقع التاريخي

مرة أخرى نجد أنفسنا أمام نمط تفكير يسير على رأسه.. فعوض الاحتكام لمعطيات الواقع التاريخي والراهن لإصدار الأحكام، ترى هؤلاء يفكرون بالطريقة التالية: بما أنّ الثورة وطنية ديمقراطية تستهدف بطبعها الكمبرادور والإقطاع فإنّ الدولة “كمبرادورية إقطاعية”.. ويُسمّون هذا النمط من التفكير وفاء لـ”ثوابت الخط الوطني الديمقراطي”، وما خالفه “قطع” مع هذه الثوابت. ونتيجة هذا التفكير الخاطئ يسقطون في العديد من التناقضات عندما يُواجهون معطيات الواقع.. منها أنّ اختلاف الحالات في الوطن العربي باختلاف الأقطار يُعطِي، حسب رأيهم، اختلافا جوهريا بينها..

يجعل من بعضها “أنظمة وطنية” (وهذا مصطلحهم) في ليبيا وسوريا.. وبعضها الآخر “أنظمة كمبرادورية إقطاعية عميلة” في تونس والمغرب ومصر.. أمّا المؤسسات الأمنية والعسكرية فهي حسب رأيهم تنقسم إلى “قيادات مُرتهنة للإمبريالية والصهيونية” من ناحية و“أبناء الشعب من الجنود وصغار الضباط”، وعدم الفصل بينها هو حسب رأيهم تجريد الدولة وأجهزتها من أيّ مضمون طبقي.

مُشكلة هؤلاء رقم واحد هي الانطلاق من المقولات العامة ومحاولة إسقاطها على الواقع. فهم يلوون عنق الواقع ليُعطي مثل هذه الأحكام التي تؤدّي إلى فصل ميكانيكي بين الأشياء يتعارض مع روح النظرية العامة نفسها. مقولات عامة لا طائل من ورائها إن لم يُؤكدها ويُثريها الواقع الملموس.

الحقيقة وحدها ثورية

إنّ حلّ المسائل الهامة التي يتعلّق بها مصير بلاد وشعب لا ينفع معه التغاضي على الوقائع التاريخية لعدم القدرة على توظيفها سياسيا – فالحقيقة وحدها ثورية والحقيقة تكمن في الوقائع.

 هذه مسائل لا تحتمل أيّ غموض.. فالفرق كبير بين أن تكون الدولة “راعية لمصالح البرجوازية الكبيرة والدوائر الأجنبية” وبين أن تكون دولة وطنية مستهدفة في وجودها ووجب الحفاظ عليها، ومن واجبنا توضيح ذلك للشعب.

إن هذه المسائل لا يُمكن أن تجيب عنها إلاّ دراسة لوقائع هذه الفترات والتي من بين عناوينها الأهم في تونس:

  • على المستوى السياسي: تصفية مخلفات الباي وعملاء فرنسا، تونسة الإدارة والأمن والقضاء، تشكيل النواة الأولى للحرس الوطني من المقاومين وأبنائهم، بعث الجيش الوطني، إصدار دستور 1959، جلاء آخر جندي فرنسي عن أرض الوطن
  • على المستوى الاقتصادي: اعتماد البرنامج الاقتصادي للاتحاد العام التونسي للشغل الصادر عن مؤتمره السادس في سبتمبر 1956، بعث أقطاب صناعية، تأميم شركتي الكهرباء والماء، تعويض الفرنك الفرنسي بالدينار التونسي، بعث الدواوين، الجلاء الزراعي
  • على المستوى الاجتماعي: تعميم التعليم ومجانيته، إقامة منظومة صحية قضت على الأوبئة، إصدار مجلة الأحوال الشخصية، تأسيس منظومة الضمان الاجتماعي.
  • على المستوى العربي: احتضان جبهة التحرير الجزائرية، مساهمة الجيش الوطني في حربي 1967 و1973 ضد الكيان الصهيوني الغاصب.

  إلى غير ذلك من الوقائع التي تفرض استنتاجات لا يبدو أنها تذهب في صالح مقولة “دولة راعية لمصالح البرجوازية الكبيرة والدوائر الأجنبية”..

هل الحديث عن “الدولة الوطنية” تخلّ عن مفهوم الطابع الطبقي للدولة؟
أنشره
الموسومة على: